Rechercher dans ce blog

samedi 4 février 2017

مقال بعنوان " سيّد قطب، ذلك القطب المظلوم .. " بقلم المدون نورالدين الجزائري


سيّد قطب، ذلك القطب المظلوم
" إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع، حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الروح و كتبت لها الحياة"


إنّ السلف -رضوان الله تعالى عنهم أجمعين- هم حملة دين الله عزّ وجل بعد رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وهم سفراء الاسلام من بعده، وهم أنقى وأتقى القلوب من بعده، وأعلم بكتاب الله وبأسباب النزول من بعده، وهم جبال شامخات في العقيدة والتوحيد من بعده، وهم المدافعين عن دين الله باللسان والسِّنان من بعده، وهم من جاهد في الله حقّ جهاده من بعده، وهم ورثة الأنبياء الحقّ من بعده، فكانوا الدِّين، والعلم، والخلق، والسلوك، والمعاملات، والزهد، غُرِست فيهم أنبل صفات الانسانية إطلاقًا، فحقّت عليهم كلمة الرضوان إلى يوم الدين ..
 
وكم من سلف الأُمَّة حَقَّت عليه سُنَن الابتلاء والتمحيص، من مالكٍ الى أحمدٍ الى ابن تيمية ولا يُنسى من قبلهم ومن بعدهم، فكان لسان حالهم مع الخصوم، من ولاّة الأمور إلى أقرانهم في الدِّين إِلَّا صدقًا وعلمًا وبيانًا، وما انتصر أحدهم لنفسه قط أو نادى بالتقيّة والمداهنة قيد أنملة، ومن شذرات علمهم أنّ الحق لا يرتبط بالأشخاص، ولا بالمذهب والأحزاب، وأنّه أصيل وقديم، وهو الغالب وإن طالت المحن والسُنن، لسانه الكلمة والحجة والبرهان، وأنّه لا يحتاج إلى أشخاص يتقلبون فيه حسب الأهواء والمصالح، وأنّه لا يريد إقصاء الآخر، ولا إلغاء شخصه، ولا الانتقام منه، بل الحوار معه لتكون كلمة الله هي العليا، وكل ما دونها هوًى ومن سبيل المجرمين، فالحقّ أبلج كالهواء في الليل والنَّهَار، وكالماء لكل ما هو حيّ، فالله هو الحق وهادي السليل ..
 
فكم من الخلف أراد خطوات السلف، اذ بقوانين السُنن ترحِّب بالإقدام، ان هلمّوا الى ملكوت الجِنان، وكم منهم ثبت، وكم منهم ولّى ونكث، فدين الله عزيز، والتجارة معه بضاعتها السجون، والدماء، والاشلاء، فكذا قرّره السلف في كتبهم وتصنيفاتهم ومراجعهم، وورث ذلك اتباعهم، فكانوا خير خلف لخير سلف في الأثر العلمي والمِحن والفِتن، فالأمثلة عن ذلك غير محصورة وكثيرة، وشيخ الاسلام ابن تيمية ومن بعده أئمة الدعوة النجدية، إلى سيد قطب ومن صدع بالتوحيد من علماء ومجاهدي الأُمَّة، اسالوا السجون والمشانق وما خبر سكّانها وما الفوارق، لتعلموا أنّ كلمة "لا اله الاّ الله" عقيدةٌ ومنهج حياة، وهي أصل الوجود وعليها يدور الدين والثوابت، فهل يستوي من قالها ويقولها بلسانه وهو آمن في شخصه وسربه وحياته وتاجرَ وتزلَّفَ بها شعارًا، ومن قالها ويقولها وهو يعلم أنّها الضريبة لنيل مفتاح السلعة الغاليةِ صادقًا، فمن تقريرات أهل العلم والعارفين بمعنى كلمة الإخلاص أنّ فعلهم خير من قولهم، فالفعل مرآة القلب ومكمن النوايا الصادقة والكاذبة، فكانوا إذا أرادوا أن يتكلَّموا نظروا، فإن كان لهم تكلَّموا وإلاَّ أمسكوا، وكانوا يحذّرون من لسانه رَسْلاً رَسْلاً، ولم يكن ديدنهم الخوض في الباطل قط، وكانوا أبعد النَّاس إيذاء لأهل الكفر وإن كان حقًا فما بال أهل الاسلام، وكان قولهم أنّ البغض الذي أمر الله به قد نُهِي صاحبه أنّ يظلم من أبغضه، فكيف في بغض مسلمٍ بتأويلٍ وشبهةٍ أو بهوى نفس، فهو أحق أنّ لا يُظلَم بل يعدل عليه، فكيف توارث الخلف غير الذي كان عليه السلف في ما قرّروه من منهج حياة واتّباع للرسل، فلا شكّ أنّ الحق عزيز، وكثير ممن يريد النيل منه وإطفائه، واطفاؤه يمر حتما بطعن حملته وهذا من شنشنة الروافض في الطعن بالعقيدة والدين المنزّل .. 
فالساحة الاسلامية اليوم لا تكاد تخلوا ممن يريد نصر الدِّين على طريق سلف الأُمَّة علمًا وعقيدة وجهادًا، فكلٌ مجتهد وكلٌ مأجور عن اجتهاده إنّ شاء الله تعالى، فميزان عمل هؤلاء هو الحقّ الذي جاءت به الرّسل والأنبياء وما كان عليه اتباعهم، ومعلوم أنّ المسلم أخو المسلم وأكملهم إِيمَانًا وأفضلهم من سلِم إخوانه من لسانه، فبحكم تعدد البلاد الاسلامية من جرّ الاستعمار وتقطيع أوصال المسلمين، ظهرت الاحزاب والطائفة وبعض المذاهب تجديدًا واُخرى انحرافًا، ويرجع ذلك لاستقرار نمط سياسة كل بلد إسلامي على حِدَا ويد المستعمر في ذلك، ففي الحزيرة العربية ثبت النَّاس والحمد لله على عقيدة الأئمة النجدية المستمدّة من مذهب الحنابلة، وأهل الشام وبلاد الكنانة مصر على الشافعية، وبلاد المغرب على المالكية، وما كان من هذا الغزو الصليبي وخروجه وترسيخ أفراخه في الحكم إِلَّا الويلات على المسلمين في فهم دينهم والتواصل ما بينهم لترسيخ العقيدة وخاصة التواصل مع أهل العلم لفهمها والعمل بها ميزانًا في العمل السياسي، ولإرجاع المسلمين إلى عزّ دينهم وولايتهم الكبرى بسواعد وتكاتف الجميع، فالعالم الاسلامي مرّ بمراحل بعد سقوط الخلافة الاسلامية، فالنّاس سوّست بالعلمانية والاشتراكية والديمقراطية، فذهب ريح العلم والشريعة بموجب الدساتير الوضعية، فحكمت وتُحكم بلدان المسلمين إلى يومنا هذا بالحديد والنَّار وتشريع نابليون، فما كان من الحكومات الوظيفية لتثبيت الحكم والعرش إِلاَّ أن يُنادى في المدائن هل من سحرة وأحبار وسدنة لنقرّبهم زلفة للحكم ونتقرب جميعا بدين جديد مبدّل للأرباب الجدد من خلف البحار، فكان ممّن اعترض على ما كانت عليه الأُمَّة من انحراف وجهل في العقيدة "العلّامة سيد قطب -رحمه الله وتقبّله-"، فبأسلوبه في البيان والنّقد وما ألّف وصنّف، جُعِل منه بعد موته واستشهاده مذهبًا لمفهوم جديد في علم الجرح والتعديل، فنال الرجل نَصِيبًا من أدعياء هذا العلم والذي هو أصل من أصول فهم عقيدة الرّجال من خلال تصنيفاتهم، وأصله الحقّ ميزان في معرفة رجال الحديث وعلله، ولهذ العلم كان له رجاله في زمن العصر الذهبي وقلّة، فما بال اليوم في زمن تراجع العلم ودقة هذا التخصص تحديدًا، وهذا العلم يختصُّ بالرواة غالبًا، ومن أدقِّ علوم السُّنة، وأجلِّها قدرًا؛ لأنَّ المعوّل عليه في قَبول السنّة أو ردِّها، ولقد قال الامام الذهبي في وقته في كتابه تذكرة الحفّاظ ما شأنه :"فعلم الحديث صَلِف؛ فأين علم الحديث؟ وأين أهله؟ كدتُ أن لا أراهم إلا في كتابٍ أو تحت تراب".
 فكما تقرر أنّ سيد قطب -رحمه الله وتقبّله- نال من هذا العلم نَصِيبًا وفي غير محلّه، إذ ظهرت من عقود قليلة مجموعة تقول بقول سلف الأُمَّة ظَاهِرًا، وما تبطن وتفعل فالسلف منهم برآء، فجعلوا هذا العلم مادة للنيل من كل الخصوم ولمآرب سياسية وشخصية انتفاعية، فحقّ عليهم عدّة تسميات خبيثة مُنفّرة، فما كان من سحرهم إلاًّ أنّ انقلب عليهم، فمن مرادهم الطعن والنيل من علماء الأُمَّة الصادقين العاملين وازدرائهم والحطّ من شأنهم وتنفير النَّاس من حولهم، فما تَرَكُوا عالمًا أو داعية او مجاهدًا في سبيل الله أو مسلما بسيطا حيّا منهم أو ميتًا إلاًّ شرّحوه، وسفّهوه، وأكلوا لحمه على موائد تجمعاتهم السرّيّة والعلنيّة، وفي حلق العلم مع سدنتهم وكهنتهم أصحاب حواشي الطواغيت، فظنّوا أنّ فعلهم هذا من عمل الفرقة النّاجية، بل سمّوا أنفسهم بها، واحتكروا جوادها، وراحوا يضربون بسيف الجيفة والعفن كل من خالفهم، وخالف ما قرّره أكابرهم وشيوخهم، فمن "علمائهم" وطلبة علمهم هواية الخوضُ في أعراض المسلمين وتجريحُهم، والأخطر من ذلك أنهم يعدُّون ذلك دينًا يَدينون به إلى الله، ولا حول ولا قوة إلاًّ بالله، فمن العلماء والدعاة من خالفهم في منهجهم وردّ عاديتهم بالبيان، من الشيخ بكر ابو زيد الى الشيخ الى الالباني وبن بار والعثيمين، إلى عبد الرحمن بن عبد الخالق، مرورًا بالشيخ الحويني ووراءهم خلق كثير، فجلّ الردود عليهم بيّنت عوارهم عقيدةً ومنهجا وسلوكا، فمنهم من صنّفهم في باب التوحيد بالجهمية، ومنهم من وزنهم بميزان الولاء والبراء فوجدهم خوارج عن الصادقين وخاصة المجاهدين، ومنهم من عرضهم على الحكم بِمَا أنزل الله فوجدهم كفّارا مشركين، والقوم في غيّهم يسبحون وفي جهلهم ماكثون، ديدنهم التبعية فما قرر الحكّام من علمانية أو ديمقراطية او اشتراكية، ولسانهم التسليطي إلاّ على من نادى بحكم ربّ البرية ..
ولكل عالم أو داعية أو طالب علم عدوا من شياطين الجنّ والانس، وهي سنّة الأنباء والرسل، فأشدّ بلاء هم حاملوا ناموس الله والأقرب فالأقرب، ولا يكاد يخلوا عصرا من أعداء الدعوة الربانية حتى يوزن الحقّ بمدى قياس أهل البدع في الصدّ عن سبيل الله، فسيف الحقّ فوقهم دائمًا وإن احتقروه بداية والفصل بينه وبين الباطل بخواتم الرجال، ومن قبل بشدّة الصبر على الاذى، فنجم العلماء والدعاة الصادقين يسطع بعد موتهم وما تركوه من إرث للأجيال، فدوننا شيخ الاسلام ابن تيمية والشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب -رحمهما الله تعالى-، فكم من عدوٍ في وقتهم وكيف واجها المناوئين لدعوتهما التجديدية، فليت شعري يسمع ويعقل هؤلاء التجريحيون الجدد ويتعلمون سيرة السلف وكيف ردّ عادية أهل البدع من ملل الطوائف والمذاهب الزيغية، وكم كان هؤلاء أحلم لأعداء الدعوة ممّن كان في صفّهم وهو معهم ضدّهما، فلسان حالهما مع حاشية السلاطين والمميّعين لدينهم ولمآرب تزلفية القدوة في التعامل، فكان الواحد منهما يقول : "من ضاق صدره عن مودتي، وقصرت يده عن معونتي كان الله في عونه وتولى جميع شؤونه، وإن كل من عاداني وبالغ في إيذائي لا كدر الله صفو أوقاته ولا أراه مكروهاً في حياته، وإن كل من فرش الأشواك في طريقي، وضيق عليّ السبل، ذلل الله له كل طريق وحالفه النجاح والتوفيق" ، وليتهم تعامل القوم مع سنّة السلف في المخالفين، ودرسوا سيرة المناوئين للدعوة المحمدية، ووزنوا بحر الحسنات ومحيط السيئات وقارنوا وقاربوا، واذا جهُل السبب بطُل العجب، فالقوم في حسد ممّن فتح الله عليهم من بعد موتهم بشهادة المنصفين في سكرة موت ينظرون، ومنهم سيد قطب -رحمه الله وتقبّله- في تشريح لمصنّفاته لا يهدأون، فرموه بقوس واحدة وكأن الرجل من طعن الخليفة الفاروق، وشنّعوا عليه بالضلالة والفسوق وبالخوارج المارقة، وفي الطعن سرًّا، وللسرِّ بإذن الله لكاشفين ..
 إ
ن سيد قطب -رحمه الله وتقبّله- عاش في بيئة وأنار بأنامل الكتابة على ضوء الاشتراكية الماركسية الفاحشة، فمن حياته الأدبية وسفره إلى امريكا وانبهاره بحضارتها وعودته تائباً إلى مسقط راْسه، ومن ثمّة التوبة والرجوع إلى الله بالتوحيد الخالص والكتابة لنصرة دين الله والإنابة، فالرّجل مرّ بثلاثة مراحل في حياته، فالأولى كان أديباً ذو عقيدة خبيثة علمانية، فَأَلَّف من المصنّفات والكتب والرسائل والاشعار فيها مثير من الجهالة والضلال، نال فيها من الرسل وبعض الصحابة بجهل وبغير علم ودراية، فقال ما قال عن موسى عليه وعلى نبيّنا السلام، وكذا عن معاوية بن ابي سفيان -رضي الله عنهما- وقد صُنف سيد قطب -رحمه الله- هذه المرحلة من حياته في صِنف مرحلة الضياع، وكتب آخر كتبه في هذه المرحلة "التصوير الفني للقرآن"، ثمّ من مرحلة الأدب ذات الطابع العلماني إلى المرحلة الثانية وهي سلفية الإتّجاه والبحث، ومن الضلال إلى الحقّ ومن ظلمات العلمانية إلى نور الاسلام الحقّ، وقد مرّ بهذه المرحلة في التأليف بما كان عليه الخلفاء الراشديين، فقد طعن بسيدنا عثمان -رضي الله عنه- بغير قصد وسمى حكمه بالاشتراكية، فالرجل سلوكه أدبي عميق ولم يحسن التعبير على طريقة السلف في تقييم حكم الأعيان، فكانت منه زلّة فاحشة، وقال في العقيدة بوحدة الوجود وذلك تأثراً بالصوفية، ومن حسن قصد الرجل أن تدارك كل ذلك فيما بعد من مؤلفاته العظيمة، فالرجل مصري الهوية وتحكك بالإخوان المسلمين في هذا البلد، وتأثَّر في بداية مرحلته الثانية بإعلام الحزب، فانخرط معهم في الدعوة إلى الله، وقد اُسنِد إليه هذا الملف (الدعوة)، فكان عَلمًا مربّيًا وداعيًّا إلى الله على بصيرة، وكيف يُقال أنّه كان تكفيريا وقد عمل في باب دعوة النَّاس في ظل الاشتراكية، فوجوده مع الاخوان المسلمين والاحتكاك به من باب البيئة وأمر الواقع والسائد في عصره ووقته، ولو كانت أوصال بلاد الاسلام غير متقطّعة لاحتك بأئمة الدعوة النّجدية، والظروف حالت بينه وبين طلب العلم فكانت له رؤية مغايرة فيما بعد في مرحلته الثالثة ..
 
ففي هذه المرحلة ازداد نضجا وفهمًا للدعوة المحمّدية، وتبرأ من كل طعن في عثمان ومعاوية -رضي الله عنهما- وأمر ذلك جليًّا في كتابه العظيم "الظلال"، فعرف في عهده الأخير معنى "لا اله إلاًّ الله" والكفر بالطاغوت، وما إدراك ما الرئيس المصري حينها جمال عبد الناصركطاغوت، فتميزت حياته بعد الاصطدام بحكم عبد الناصر بالبلاء، والجهاد، والصدع بالحق، وعدم التنازل عن المواقف والمقررات العقدية الثابثة رغم الاغراءات الكثيرة، وهدّد جسديًّا، واعتُقِل سنين من أجل التوحيد، قضاها حاملا معاناته، وكان مريضًا في زنزانته، فلم يغيّر ولم يُبَدِّل خلافا لبعض العلماء الذين تراجعوا وغيروا عن مواقفهم وثوابثهم، حتى أُعْدِم -رحمه الله وتقبّله- مقبلًا على الله غير مدبر، وما تناقلته الاخبار قبيل استشهاده لمن عزم السلف أمام المِحن، فأين اليوم سيد قطب وأين سجّانه، ومن يذكره التاريخ بخير ومن يلعنه، ولله في أمره حِكَم وشؤون، ولله الأمر من قبل ومن بعد وإليه ترجع الأمور ..
فبعد استشهاد سيد قطب -رحمه الله وتقبّله- ثار العالم الاسلامي واستنكر الجريمة بحق إنسان قليل الجسم والبنية، حتى صدرت فتوى من بلاد الحرمين تُكفّر الرئيس المصري جمال عبد الناصر وهي موجودة موثوقة مشهودة، ولكن الرجل ما قرّره في آخر حياته زعزع كيان وعرش جلّاده، فالكل من عايشه وعاصره وقرأ له شَهِد له بشموخ الهمّة والعزيمة وبالعلم في العقيدة، فكان رجلا قرآنيّاً، وكانت له مع القرآن وقفات في كتابه الظلال وولجات وخرجات من إبداع وفنِّ البلاغة في آيات الله والبيان، وفهمها وايصال نور الوحي بأسلوب خفّاق جذّاب فريد من نوعه وأصله، ومن إبداعاته لدحض شبهة التكفير كان يقول -رحمه الله وتقبّله- :" إن مهمتنا ليست إصدار الأحكام على الناس ولكن مهمتنا تعريفهم بحقيقة لا إله إلا الله؛ لأن الناس لا يعرفون مقتضاها الحقيقي وهو التحاكم إلى شريعة الله .."، ففد دعى إلى التوحيد ومعرفته علمًا وعملًا به، ولم يكن سلطويًّا في أحكامه على المجتمعات، إذ كان يرفض فرض الاسلام من أعلى على النَّاس، أو يُستخدم العنف والقوة داخل المجتمعات الاسلامية، وإنّما السبيل للإلتزام بالإسلام، وإقامة الحكم الاسلامي، وإيقاظ القلوب، وتفهيم النَّاس، وبناء القناعات الصحيحة لديهم ( من كلام د. عبدالله العقيل بتصرف)، وكان يقول أيضًا -رحمه الله وتقبّله-:" ولا بد إذن أن تبدأ الحركات الإسلامية من القاعدة، وهي إحياء مدلول العقيدة الإسلامية في القلوب والعقول، وتربية مَن يقبل هذه الدعوة وهذه المفهومات الصحيحة تربية إسلامية صحيحة .. وعدم محاولة فرض النظام الإسلامي عن طريق الاستيلاء على الحكم قبل أن تكون القاعدة المسلمة في المجتمعات هي التي تطلب النظام الإسلامي لأنها عرفته على حقيقته وتريد أن تحكم به.." (جريدة المسلمون، من مقالة: بعنوان لماذا أعدموني؟ ذكرت كلمات وكتابات له... )
ولو نظر العاقل منّا وتمعّن في عمق الكلام وفي طيّاته، لوجد هذا الكلام من صلابة فهم العقيدة للمسلم ومن عسل المنطوق في تبيان طريق الحق، أوَ ليس هذا الكلام من مشكاة ما قرّره الشيخ الالباني -رحمه الله- في قاعدته التربوية الاسلامية المسماة التصفية والتزكية، أوَ ليس هذا الكلام من رجل عاقل صاحب علم ونظرة وبيّنة، ما بالُ القوم لا يَرَوْن في سيد قطب إلّا حقبته الأولى من بدايته الأدبية، أوَ ليس الاسلام يجبّ ما قبله! أوَ ليس للقوم عذرًا كعذر من لم يحكم بما أنزل الله ويروّجون لأهل الكفر بأنّهم على عقيدة! كيف وكتباته أمام القوم من ولاء وبراء من صريح العقيدة! أوَ صحيح أن سيّد قطب قال بوحدة الوجود في أيّامه الأخيرة !. وهذا نص صريح له يبرئه من تهمة رميّه بعقيدة باطنية والتي كثيراً ما يدندن حولها آكلي لحوم البشر من الجامية والمدخلية، فيقول سيد قطب -رحمه الله وتقبله- في الظلال المجلد ( 1/ 106 ):" وقبل أن يمضي إلى الجوانب الفاسدة الأخرى من تصورهم لشأن الله- سبحانه- يبادر بتنزيه الله عن هذا التصور، وبيان حقيقة الصلة بينه وبين خلقه جميعاً، سُبْحانَهُ!. «بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ. بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ. فَيَكُونُ»".. هنا نصل إلى فكرة الإسلام التجريدية الكاملة عن الله سبحانه، وعن نوع العلاقة بين الخالق وخلقه، وعن طريقة صدور الخلق عن الخالق، وهي أرفع وأوضح تصور عن هذه الحقائق جميعاً.. 
 لقد صدر الكون عن خالقه، عن طريق توجه الإرادة المطلقة القادرة: «كُنْ، فَيَكُونُ»، فتوجه الإرادة إلى خلق كائن ما كفيل وحده بوجود هذا الكائن على الصورة المقدرة له، بدون وسيط من قوة أو مادة.. أما كيف تتصل هذه الإرادة التي لا نعرف كنهه، بذلك الكائن المراد صدوره عنها، فذلك هو السرّ الذي لم يكشف للإدراك البشري عنه، لأن الطاقة البشرية غير مهيأة لإدراكه. وهي غير مهيأة لإدراكه لأنه لا يلزمها في وظيفتها التي خلقت لها وهي خلافة الأرض وعمارتها.. 
وبقدر ما وهب الله للإنسان من القدرة على كشف قوانين الكون التي تفيده في مهمته، وسخر له الانتفاع بها، بقدر ما زوى عنه الأسرار الأخرى التي لا علاقة لها بخلافته الكبرى، ولقد ضُربت الفلسفات في تيه لا منارة فيه، وهي تحاول كشف هذه الأسرار وتفترض فروضاً تنبُع من الإدراك البشري الذي لم يهيأ لهذا المجال، ولم يزوَد أصلاً بأدوات المعرفة فيه والإرتياد. فتجيء هذه الفروض مضحكة في أرفع مستوياتها. مضحكة إلى حد يحير الإنسان: كيف يصدر هذا عن «فيلسوف»!، وما ذلك إلا لأن أصحاب هذه الفلسفات حاولوا أن يخرجوا بالإدراك البشري عن طبيعة خلقته، وأن يتجاوزوا به نطاقه المقدور له! فلم ينتهوا إلى شيء يُطمأن إليه بل لم يصلوا إلى شيء يمكن أن يحترمه من يرى التصور الإسلامي ويعيش في ظله. وعَصم الإسلام أهله المؤمنين بحقيقته أن يضربوا في هذا التيه بلا دليل، وأن يحاولوا هذه المحاولة الفاشلة، الخاطئة المنهج ابتداءً. فلما أراد بعض متفلسفتهم متأثرين بأصداء الفلسفة الإغريقية- على وجه خاص- أن يتطاولوا إلى ذلك المرتقى، باءوا بالتعقيد والتخليط، كما باء أساتذتهم الإغريق! ودسوا في التفكير الإسلامي ما ليس من طبيعته، وفي التصور الإسلامي ما ليس من حقيقته، وذلك هو المصير المحتوم لكل محاولة للعقل البشري ان يسبح وراء مجاله، وفوق طبيعة خلقته وتكوينه..
والنظرية الإسلامية: أن الخلق غير الخالق. وأن الخالق ليس كمثله شيء، ومن هنا تنتفي من التصور الإسلامي فكرة: «وحدة الوجود» على ما يفهمه غير المسلم من هذا الاصطلاح- أي بمعنى أن الوجود وخالقه وحدة واحدة- أو أن الوجود إشعاع ذاتي للخالق، أو أن الوجودَ هو الصورة المرئية لِمُوجِدِه، أو على أي نحو من أنحاء التصور على هذا الأساس. والوجود وحدة في نظر المسلم على معنى آخر، وحدة صدوره عن الإرادة الواحدة الخالقة، ووحدة ناموسه الذي يسير به، ووحدة تكوينه وتناسقه واتجاهه إلى ربه في عبادة وخشوع:"بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ" ، فلا ضرورة لتصور أن له من بين ما في السماوات والأرض ولداً، فالكل من خلقه بدرجة واحدة، وبأداة واحدة ... ) إلى آخر كلامه ..
فالنص صريح في دحض هذه الشبهة وما أُثير حولها، فالقوم ديدنهم الجهل وتبعية الرؤوس في النيل من زعزع عروش أسيادهم الطواغيت، فما كان منهم إلاًّ التشنيع عليه بكل أوصاف القبح والبدع لتنفير النَّاس ممّا كان يدعو إليه من عقيدة صافية غالية، فكون الرجل مات في السجن شهيدًا، وقد أثنى عليه حتى مشايخهم في عصر من العصور قبل حرب أفغانستان الاولى، فكتبه كانت تُدَرَّس في الجزيرة العربية وتحت رعاية وزارة الأوقاف السعودية والخليجية، وإلى اليوم ثناء عليه ورحمة من العلماء الصادقين الصادعين بالحق وبعض طلبة العم أصحاب العلم وصفاء السريرة، وما نقم منه إلاًّ من دافع عن كفر الطواغيت وقال باستحلال الفعل والقول عندهم غير ملزم ومن والكمال وليس من الشرطية، إرجاء بكل أطيافه وأن بُيِّن لهم سوء عملهم فسيف التجريح ملوّح وملح زائد في الجرح ولا رزية، وسرّ نقمتهم عن سيّد قطب ما رآوه عند شباب التوحيد الذي زُجّ بهم في السجون كإمام في الثبات والصدع بالحق أمام الطواغيت، وما كتابه "معالم في الطريق" إلاّ معْلَم ومنهاج حياة، وسيد قطب -رحمه الله وتقبّله- يبقى أديباً ومَعْلمًا وعَلَمًا في القرن العشرين، له ما له وعليه ما عليه، فالرجل أخطأ ثم تدارك وأصلح حتى أتاه اليقين ..
فبعد أكثر من خمسين عاما عن استشهاده -تقبّله الله- فهو الغائب الحاضر عند استحضار العقيدة وأسّها الولاء والبراء، فالرجل ميزان فيهما وقد وافقه جمع من أهل العلم الصادقين والاحرار منهم والمعتقلين، ولازال لحد اليوم جسم نَهشٍ لآكلي لحوم البشر ممّن ينتسبون إلى سلف الأُمَّة زورًا وبهتانًا، ولو ناقشت المثير منهم فيتبيّن لك أن الواحد منهم لم يقرأ له قط أو أسطر كمسافة نملة من جحرها إلى رزقها، ويا ليت من انتقد ما كتبه رحمه الله بالأدوات العلمية المعهودة والمجرّدة من الهوى والتّبعية، وطرح المواضيع والنّقاط علميًّا على مشرحة الأدلّة الشرعية، لكن القوم استخدموا التشنيع بهول الماكنة الإعلامية والدعوية في حوزتهم ولم يذرفوا باب الانصاف ولو بشطر كلمة، وأطلقوا الأحكام وألصقوا الصفات الخبيثة على كتبه بغير وجه الله وعدل الشريعة، ومن مدرسة علم التجريح التجرّد من أي انحياز نفسي يُؤثّر على الباحث في المسألة، وودء الحظوظ وتطبيق المذهبية والحزبية إلى أن يُنصف صاحب التصانيف من غير سابقة في براثين البدعية، فمن يعتمدون عليهم كمراجع في علم الحديث والفقه والفتوى أثنوا جميعهم على سيد قطب بما قدّم للإسلام والمسلمين، ولكن من حقد هؤلاء راحوا يبتزون النصوص والكلام من المصدر والأشرطة ما ينصر هواهم ومرضهم المزمن في النيل من اصحاب العقيدة، وما كان ربّك نسيّا، وأرى سيّد قطب -رحمه الله وتقبّله- ينظر إليهم بعين الرحمة والشفقة ولسان حاله فيهم : " إما أن يكون الحق لي، أو لكم، أو لله ، فإن كان الحق لي فَهُم في حلٍّ، وإن كان لكم فإن لم تسمعوا مني فلا تستفتوني؛ وافعلوا ما شئتم، وإن كان الحق لله فالله يأخذ حقه كما يشاء ومتى يشاء"، وليعلم هؤلاء" أن الله يدافع عن الذين آمنوا " في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، فانظروا لدعوته وما حقّقت في الخنادق، ولكم أن تزنوا ما في دعوتكم ورغد العيش في الفنادق، وأجلسوا هنيهة أمام واقعكم ولا تكذِّبونه بحظ النفس والهوى، فإن المسلم لا يكذب، وللإمام ابن عبد البر -يرحمه الله تعالى- كلاما نفيسًا في باب الانصاف وعدم الكذبِ، إذ يقول في كتابه ( التمهيد ) :" لا يكون المؤمن كذاباً، أي المؤمن لا يغلب عليه قول الزّور فيستحلي الكذب، ويتحراه ويقصده، حتى تكون تلك عادته، فلا يكاد يكون كلامه إلا كذباً كله، ليست هذه صفة المؤمن ..."، 
ولهؤلاء أيضًا نصيحة وخاتمة لكلامي من الامام الذهبي -يرحمه الله تعالى- إذ يقول :" ولا سبيل إلى أن يصير العارف الذي يزَّكي نقلة الأخبار ويجرحهم جهبذاً إلا بإدمان الطلب، والفحص عن هذا الشأن، وكثرة المذاكرة والسهر، والتيقظ والفهم مع التقوى والدين المتين، والإنصاف والتردد إلى مجالس العلماء، والتحري والإتقان ..."، فإن كُنتُم أتباع السلف فكفّوا ألسنتكم عن الأموات والاحياء، فمن سار إلى ربه فقد قدّم، وللمسلم التّرحم، وإذا أراد أن يغتاب فله ميزان الحسنات والسيئات ولينظر فيهما، وإن كان من المنتظرين فباب التوبة لا يزال مفتوحاً، وربّك الغفور الرحيم وإليه ترجعون ..
السلام عليكم ..

======================

كتبه : نورالدين الجزائري
08
جمادى الاولى 14388هـ الموافق ل 04/02/2017






Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire